همس .. التعبانين

همس .. التعبانين

السبت، ١٠ مارس ٢٠٠٧

مالناش فيه

في ذكرياتنا إفيهات بارزة تختزن وتلخص مواقف شهيرة للغاية حدثت لنا أو أمامنا, سواء كان ضحكنا لها أو عليها أو منها, علي غرار " حقها ولا مش حقها- متعودة دايما- مفيش فايدة- غطيني وصوتي عليّ- الله جاب الله خد الله عليه العوض" وغيرها من الإفيهات التي تمثل ذاكرة أمة بأكملها,ومواقف متشابهة تمر علينا الفرد تلو الأخر, لكن حتما ما من إفيه – علي الأقل بالنسبة لي – أشهر من تلك الجملة التي ترددها كل الألسن في كل موقف,أو نقاش,رغم أنها تعقد أكثر مما تحل..
" ماليش فيه"
جملة يقولها الأبن لوالده,والمدير لمرؤسيه,الضابط للمتهم, والبائع للزبون,حتي رئيس التحرير أصبح يرددها علي المحررين!!
وعلي الرغم من أن كل ذلك أصبح شيء عادي ومألوف,إلا أن الأمر كان مختلفاً تماماً عندما رددها لي سواق الميكروباص في لهجة غاضبة خرجت أشبه بالصراخ..
لذا دعوني أقص عليكم حكايتي مع الزمان,أقصد يعني حكايتي مع الميكروباص,التي جعلتني أتنبه وأصل إلي أمور جديرة بالاهتمام والانتباه..
مثلي مثل أي مواطن (غلبان) أنتظرت علي محطة الأتوبيس ما يزيد عن الساعة, في لهيب الشمس الحارقة وقت الظهيرة, إنتظاراً لأي حاجة نركبها والسلام,والأحلام تتناقص وتتقلص في سرعة رهيبة..
من مجرد خيال جامح شطحت فيه وأنا أتخيل أتوبيس به مقاعد خاوية تنتظرني أنا و(شلة) الشعب المطحون المنتظر معي , فنصعد في أسلوب هاديء متحضر,ويقطع لنا التذاكر (عمو الكمسري) وعلي وجهه ابتسامة رقيقة,والأغرب أن التذكرة تكون (بربع جنيه),إلي أتوبيس به نفس المقاعد الخواية مع الاستغناء عن ابتسامة الكمسري ( من غير عمو ) والتذكرة تكون ب(نص جنيه ) لأتمني في النهاية أي أتوبيس متكدس بالبشر والتذكرة بجنيه,بس المهم أرجع بيتنا يا ناس..إلا أن حتي هذا التخيل ظل بعيد المنال,أكثر من ساعة,قبل أن يعود إلينا الأمل من جديد علي يد ذلك الميكروباص ( التويوتا ) الذي ظهر من بعيد به مقعدان فقط خاويين,وذلك السائق ينادي بصوته الجهوري " رمصيااااااااص.. رمصيااااااااص" قبل أن يتطوع ولاد الحلال ويرشدونا أنه يقصد ( رمسيس ) ,وعندها تحفز الجميع بمن فيهم ذلك الرجل العجوز وتلك المرأة الحامل,حتي الموزة ذات البادي والبنتاكور أخذت وضع الاستعداد,ومعهم بالمرة العبد لله .. وكالمعتاد في قاموس حياتنا اليومية استقر بنا المقام والجميع داخل الميكروباص,بغض النظر بقي عن النوزة اللي قعدت علي حجر الست الحامل,والرجل العجوز اللي قعد هو 3 رجالة علي كرسي واحد وحوالي 4,3 متشعبطين في الميكروباص بأيديهم وجسمهم كله برة في الهواء الطلق لأننا ببساطة شديدة!!
وطبعاً كلنا نحفظ باقي الموقف عن ظهر قلب..السائق يستمر في نباحه " رمصيااااااااص.. رمصيااااااااص" رغم أنه لا مكان لذبابة بيننا,والغريب أن هناك من يستجيب له ويجري بأقصي سرعته خلف الميكروباص ليلحق به,وهو الأمر الذي استفز الرجل العجوز بشدة فصاح في السائق " يا أسطي أنا مش عارف أتنفس حرام عليك..العربية أتملت علي آخرها" إلا أن الرد كان كالمعتاد جاهز في فم السائق,وكأنه كان منتظر من زمان وقرب يحمض,ولما صدق جت الفرصة عشان يخرج إذ قال السائق" أنا ما ضربتش حد علي أيده عشان يركب معايا.. ماليش فيه يا حاج"
بعدها بفترة طلبت منه (الموزة) أن يقف بالسيارة قرب إشارة روكسي, لكنه أكمل مسيرته,وكأن الأمر لا يعنيه,رغم تأكيدها له علي الوقوف الذي تحول إلي صراخ , أجاب عليه ببرودً " الظابط كان واقف يا أنسة" ليأتي عليها الدور في ذكر نفس الإفيه الشهير بعصبية شديدة " ماليش فيه"كل هذا يحدث والعبد لله بيموت من الغيظ وحرقة الدم,لكن لا مانع من بعد الصبر, و" عديها الناس لبعضيها " حتي صاح فينا السائق بصوته الكريه
" الأجرة يا حضرات" وعندما أخرج كل منا 75 قرشاً من جيبه,فوجئنا بالسائق يصرخ بعنف صارم " الأجرة بجنيه يا حضرات",وهنا كان لابد أن أخرج عن صمتي,وأصبح المتحدث الرسمي باسم السادة الركاب,وأنا أتسائل في استنكر " أزاي يعني يا أسطي..طول عمرنا بنركب ب 75 قرش..بتاع أيه يعني تاخد جنيه؟" فإذا بالرد جاهز سلفاً,وكأنه أيضاً كان ينتظر أن يناقشه أحد, ليخرج بسرعة قبل أن يحمض إذ قال " ماليش فيه..أبقي روح أسأل الحكومة " فسألته بعصبية شديدة " أسألها عن أيه عن جشعك وطمعك..خلوا عندكم رحمة بقي..وبعدين أنا صحفي علي فكرة ومش هسكت عن اللي بيحصل ده" وهنا شاركني الجميع الحماس والاندفاع ليخرجوا اللي في نفسهم وكأنني أقود مظاهرة عصماء ضد طاغية العصر, قبل أن يضغط السائق علي الفرامل فجأة صارخاً فينا
" البنزين سعره غلي يا بني أدمين وإحنا مش هندفع الفرق من جيبنا للشعب يا عم الصحفي.. أنا ماليش فيييييييه" ثم اكتست نبرته بالحزن وهو يقول " السكر غلي من 180 قرش لـ 3 جنيه في ظرف شهور قليلة..حد اتكلم..حد فتح بقه؟" فتابع الرجل العجوز
" وبيقولوا لسه احتمال يغلي كمان ويوصل لـ 7 جنيه يابني" وبدأت الدفة تتحول عليّ إذ قالت أمرأة عجوز " يعني هي جت علي السكر والبنزين بس؟ ما عندك الخضار والفاكهة,واللحمة,وحتي الفراخ اللي جالها أنفلونزا غليت عندنا والبيض كمان غلي علي حسها ووصلت البيضة ل 75 قرش ..ده علي أيامنا ال75 قرش دول كانوا يفتحوا بيت" بينما قالت السيدة الحامل " حتي العيش أبو شلن اللي قالوا أنه مدعم بقي يخلص في الأفران قبل ما يتعمل,ولو لحقنا رغيفين تلاتة بالعافية يطلعوا صغيرين,ومتبهدلين بالتراب والمسامير كأنهم اتاكلوا قبل كده,وأترموا في الزبالة" ثم اشترك معنا موظف يحمل بطيخة في يده,وقال في غيظ " ده حتي أسعار الدروس الخصوصية غليت,وبقينا مش ملاحقين علي مصاريف العيال "
فوجدتني رغم عني أسرح بخيالي بعيداً عن الميكروباص وما يقال فيه وأنا استرجع ما قرأت وما درست عندما بدء الرئيس السادات مرحلة التحول من الرأسمالية المخططة إلى رأسمالية السوق المفتوح ,وبشر المصريين بأنهار السمن والعسل وانتهاء عصر الجمعيات التعاونية الاستهلاكية وبطاقات التموين رمز الشيوعية المقيته ووصف أحمد فؤاد نجم عصر الانفتاح " بأن التليفزيون هيلوّن ( اى يتحول من نظام الأبيض والأسود إلى الألوان ) والجمعيات تتكون ( مثل جمعيات رجال الأعمال ) والعربيات هتموّن بدل البنزين برفان ( دليل الرفاهية ) حتي وصل بنا الحال إلي أن قذف المصريين ببطاقاتهم التموينية إلى الدواليب لأننا وبفضل الجهود الحكومية انتهينا من ظلمات عصر البطاقات التموينية وطوابير الجمعيات الاستهلاكية وانتقلنا إلى بهجة عصر السوبر ماركت الذى تباع فيه كل السلع ولكن بأسعار تفوق طاقة الملايين من المصريين !!
ثم جاءت الحكومات الحالية واعتبرت أن الانفتاح كان سداح مداح وهو يحتاج إلى ترشيد وإننا بحاجة إلى إصلاح اقتصادي للتوجه الرأسمالي نحو اقتصاد السوق وسلمت الحكومة القيادة الاقتصادية لصندوق النقد الدولى والبنك الدولى وراحت الحكومات المتعاقبة تنفذ توصيات المنظمات الدولية,حتي نصل لبر الأمان, فتم بيع القطاع العام وتصفيته وتم تعويم سعر الصرف للجنيه المصري وتخلت الحكومة عن تعيين الخريجين ولجأت إلى الاقتراض من الخارج والداخل لتمويل مشروعات البنية الأساسية التى تجاوزت قيمتها 250 مليار جنيه.وتواكب مع الإصلاح دعوات لإلغاء الدعم السلعى وتقليص المبالغ المخصصة له في الموازنة العامة وقالوا لنا " ما تخافوش يا جماعة..كله تمام..مصر بخير" ثم بثوا في أنفسنا الطمأنينة عندما أكدوا أن محدودي الدخل سيتضررون في المدى القصيرفقط ولكن السوق سيتوازن من تلقاء نفسه وتتحسن أوضاعهم على المدى الطويل و تمت الخصخصة وعام الجنيه المصري لغاية ما غرق وتحولت الصحة والتعليم إلى سلع لايتعامل معها إلا من يملك الفلوس فقط وانتشرت الدروس الخصوصية والجامعات الأهلية والمستشفيات الخاصة وتقلصت مخصصات الدعم واغلقت العديد من المجمعات الاستهلاكية,وانتهي الأمر بطرد المذيعة نيرفانا من ( البيت بيتك ) عندما قالت أن هناك رسالة وصلتها تقول أن البنزين سعره هيغلي,وتم التشويش علي الأمر,وفي النهاية طلع كلامها صح,مما يدل إن في ناس عندنا في بلدنا بتعرف بواطن الأمور,وتعرف القرارات قبل عامة الشعب بفترة كبيرة , و...
" ما ترد علينا يا عم الصحفي .. فين الصحافة قصاد اللي بيحصل فينا ده؟ ما حدش بيكتب ليه؟ " لأجد نفسي أهرش رأسي ( لأني مش لاقي حاجة تانية أعملها) قبل أن تنتصب قامتي في شموخ وأصيح بشجاعة بالغة " علي جنب يا أسطي " وما أن خرجت من الميكروباص والأعين كلها تحملق في وجهي,وجدت لساني يردد رغماً عني بهمس خافت" ماليش فيه"

ليست هناك تعليقات: